كتب :عماد العذري
التقييم :4/5
بطولة :فيديريكو لوبي , ماريساباريديز , إدواردونورييغا
إخراج :غاييرمو ديل تورو(2001)
عقب بضعة أعوام على صعود المخرج المكسيكي الشاب غاييرمو ديل توروفي عالم صناعة أفلام الرعب بفيلميه الشهيرين Chronosو Mimicجاء هذا الفيلم ليكمل رسم الصورة لنوعية المسيرة التي إختطها ديل تورولنفسه : سينما الإثارة و الرعب التي تتحرى الخطوط الهلامية بين الحياة و الموت و أين يقف الخلود منهما .
يحكي علينا ديل توروحكاية الدكتور كازاريسو حبيبته كارمناللذين يديران مأوىً للأيتام في مكان ناءٍ من أسبانيا إبان الحرب الأهلية الأسبانية , بمساعدة خاسينتومتعهد النظافة الشاب و عشيقته كونشيتاالمعلمة في المدرسة , كازاريسو كارمنيقفان في صف الجمهوريين في هذه الحرب , و يخبئان عدداً كبيراً من السبائك الذهبية لإستخدامها في دعم الجمهوريين , و بعد أيام على قصف قوات فرانكوللمدرسة بقذيفةٍ لم تنفجر يصل إلى الميتم الطفل كارلوسالذي يتغير بقدومه كل شيء عندما يبدأ برؤية شبح طفل يدعى سانتييتجول في أرجاء المدرسة محاولاً إخباره بحقيقة ما حدث له ليلة سقوط القذيفة في المدرسة .
على الرغم من أهمية عمل كهذا و محوريته في مسيرة المخرج غاييرمو ديل تورو , و على الرغم من النهج الذي ينهجه في معالجة قضية ديل توروالأم (الخلود و الفناء الإنسانيين) , إلا أن أهمية هذا الفيلم إزدادت مع تقادم الزمن بطريقة لا تجعلنا نأخذ في تقييمه مشاهدته فحسب , بقدر ماهو التمهيد الذي قدمه لتحفة غاييرمو ديلتورو Pan's Labyrinth, جزئية نلمسها منذ اللحظة الأولى لهذا العمل الذي يبدأ – كما Pan'sLabyrinth - بصوت الراوي و يختم به , و ينطلق في رحلته من صورة طفل ينزف ليصل إلى سيارة تحمل رجلين و صبياً يقرأ في كتاب !! ، ذات الأجواء التي صنعها لاحقاً في متاهته : اليتم ، و الحرب الأهلية ، و الطبيب ، و الخدم ، و قسوة الإنسان التي لا حدود لها , Pan's Labyrinthإنطلق من هنا , و إستمر لاحقاً ليكتمل في فيلم آخر من إنتاج ديل توروحمل إسم The Orphanage.
الفيلم يحمل إثارة ديل توروالمعهودة منذ اللحظة الأولى , حيث يعمد الرجل لمزج التأثير البصري المبكر مع جاذبية السرد القصصي التي إمتاز بها , مستغلاً الإبداع المتدفق بعنف من كاميرا غاييرمو نافارو (الرجل الذي قاده للأوسكار بعد خمسة أعوام) , نافاروعظيمٌ هنا , الطريقة التي يمزج بها النور و الظلام , أو تلك التي يتعامل بها مع الفلترة و الظلال عبقرية بحق , هناك حركات إلتفاف ذكية للغاية بكاميرا نافارو , الإلتفاف الذي يصنع حالةً خاصة من الترقب البصري غير المصطنع (يضاهي ذلك الذي شاهدناه على مائدة الطعامأو في مطاردةالغاباتفي Pan's Labyrinth) , هناك تباين لوني شديد الإنسيابية بين الفلتر الأزرق (المظلم) و الذهبي (المنير) بطريقة مجنونة و أحياناً في لقطة واحدة ! , تفاصيل بصرية صنعت رهبة حقيقية للمشاهد تجاه هذا الميتم مدعومة بصوت التنهد الذي يصدره الشبح سانتيو يملأ المكان .
و بعد الإشباع البصري لعين المشاهد باللون الذهبي الذي يطغى على الإفتتاحية , يقدم ديل توروأول مفاتيح الإثارة في قصته : طفل جديد في الميتم يرى شبح طفل بمجرد قدومه إليه , و رغم قناعة المشاهد التامة بأن هذا الشبح سيشكل المحور الأساسي للقصة إلا أن ديل تورولا يغريه كثيراً في التوجه إلى تلك الناحية , ديل تورويشعرك في بدايات فيلمه بأن لديه الكثير غير ذلك ليرويه , و بأن ذلك الشبحما هو إلى جزء بسيط من هذه القصة , و في الوقت ذاته لا يتوقف ديل توروضمن عملية تأسيس أركان قصته و بناء شخصياته : الطبيب , كارمن , خاسينتو , عن التكثيف على محور الشبحالذي لا يمكن أن يمر مرور الكرام خصوصاً مع فيلم يفتتح بصوت الراوي على تساؤل جوهري و محوري فيه (ماهو الشبح ؟ إنه مأساة محكوم عليها أن تعاد مراراً و تكراراً) .
عندما يبدأ ديل توروفي تقديم شخصياته يدرك جيداً أن هذه الشخصيات لن تمتلك الجاذبية الكافية للتفوق على جاذبية الشبح الذي شاهدناه , لذلك يتعامل ديل تورومع ذلك وفقاً لهذه القناعة و يحاول من خلالها أن يستمد جاذبية شخصياته بربطها و لو من بعيد بقصة الشبح , أمرٌ لا نشاهده خلال التأسيس المبكر لأحداث الفيلم لكنه يبدأ بالظهور بوضوح مع تقدم أحداثه , الطبيب كازاريسشخصية محترمة وقورة متعاونة , أمرٌ نستشفه من خلال الطريقة المختلفة التي تعامل بها مع وصول طفل جديد إلى الميتم و الطريقة التي تقرب بها من الولد و منحه الطمأنينة و الراحة في مكانٍ غريبٍ عليه , حبيبته كارمنصاحبة الميتم تقدم نموذجاً للمرأة التي شاهدت في حياتها الكثير و طحنتها عجلات الزمن بفعل والدٍ شيوعي مقاوم كرهت فيه مقاومته التي أبعدته عنها , و رغم ذلك لا تتورع هي عن دعم المقاومة و الإصطفاف وراء الجمهوريين و لو سراً خصوصاً أنها تملك السبائك الذهبية مصدر الدخل الحقيقي الأهم للجمهوريين في هذه الفترة , مع ذلك لا تتوقف كارمنعن دعوة كازاريسلمغادرة البلاد و الذهاب إلى الأرجنتين طالما إستمرت هذه الحرب , خاسينتوبالمقابل شاب يمتليء بالحيوية و الطيش و الطموح بالتخلص من المنطقة التي عاش فيها 15 عاماً و المغادرة إلى غرينادامع عشيقته كونشيتا .
هذا البناء لشخصيات الفيلم يظل حتى فترة متقدمة من العمل غير موحدٍ بإتجاه رسم صورة واضحة للشبح , يحدث هذا خلال الربع الأول من العمل و الذي لا يبدو بالرغم من جاذبية الشبح جزءاً فارغاً أو عديم الفعالية من الفيلم , لكن الأمور تتغير بمجرد حدوث التحدي بين كارلوسو خصمه خايميحول قدرة كارلوسعلى جلب الماء من المطبخ , تحدٍ يقود كارلوسلمعرفة الشبح بطريقة تمنح السرد القصصي للفيلم الدعم الذي يحتاجه في هذه المرحلة , كارلوسيعرف أخيراً نوايا الشبح الذي يراه (سيموت الكثير منكم) , و هي نوايا رغم قسوتها تكتسب إثارتها الحقيقية من فكرة كونها تبدو تلاعباً بخيالات المشاهد , فهذه العبارة القاسية التي تصدر من شبح شاحب تتطاير الدماء من رأسه تبدو مع تقدم الأحداث (تحذيراً) و ليست (وعيداً) , الشبح يبدو في جميع تصرفاته مسالماً و لا يبحث عن الشر , لكنه يحذر من حدوثه و إنتشاره في الميتم لأنه عايش نمو بذرته الأولى و ذهب ضحيةً لها .
بعد مواجهتين مهمتين لكارلوسمع خاسينتونبدأ في رسم صورة مبكرة مبتورة المعالم عن منبع الشر في هذا الميتم , لكن هذه الجزئية لا تكثف كما يجب , و تهمل مؤقتاً لصالح جزئيةٍ أخرى لا تمنح هي الأخرى التكثيف الذي تستحقه : الغموض الذي يخفيه الدكتور كازاريس, الهموم التي يحملها , و الجاذبية الحزينة التي تحملها شخصيته , كازاريسيحاول أن يساعد كارلوس على نسيان قصة الشبح من خلال شربه للسائل المحيط بجنين العمود الفقري الشرير (و هي الأجنة التي لا يجب أن تولد كما يعرِّفها كازاريس) , و رغم أن الموضوع يبدو كذبة خالصة إلا أن كازاريسنفسه يشرب من هذا السائل , يرى فيه دواءً شافياً لمعالجة العجز الجنسي , الجزئية التي يخفيها و يحاول الإلتفاف عليها , الجزئية التي يبدو أن لا مهرب من مواجهتها خصوصاً عندما نعرف أن كارمنعشيقته تخونه مع خاسينتوالشاب الذي ربته في الميتم .
بعد ذلك و عقب مرحلةٍ تخديرية وضع فيها ديل توروقصة الشبح في الهامش و نجح في ذلك فعلاً ، يدفع الرجل بحكايته نحو إثارتها الختامية ، يرفع إجرامية خاسينتوإلى ذروتها عندما ينتقم ممن طردوه بتفجير الميتم , حادثة تطيح بالكثير من الأطفال و تؤدي ضمن تداعياتها إلى وفاة كارمنمتأثرةً بجراحها , الأمر الذي يجبر الطبيب كازاريسعلى شحذ بندقيته أخيراً ليصيد الشر الرابض على ميتمه , و عند النقطة المفصلية في الفيلم يسأل خايميصديقه كارلوسالذي سيمسك بندقية أخرى لمساعدة الطبيب (هل أنت قادر على قتل أحد ؟) , التساؤل الذي يسرد من خلاله خايميالقصة الكاملة للشبح و كيف قُتل الفتى سانتيبقسوة ليلة سقوط القنبلة في باحة المدرسة (الشر الذي إنبثق تلك الليلة) , قتل سانتيأمام عيني خايميدون أن يجرؤ على قتل الشر الواقف أمامه لأنه كان جباناً , الشر الذي سيعود بقوة أكبر من أجل أن يحصل على السبائك الذهبية , الشر الذي كان في اللحظة ذاتها يقتل عشيقته كونشيتاالشخص الوحيد الذي منح خايميإهتماماً و بادله عاطفةً موؤدة , و رغم أن هذه المرحلة تبدو مهمة للغاية كونها تمنح الراحة الكافية للمشاهد المترقب لفهم كينونة الشبح , إلا أن الفيلم يرسخ خلالها الشعور السائد الذي يتملك المشاهد منذ البداية حول تلك الفراغات الصغيرة الموجودة هنا و هناك ، و التي لا تجعل كل مشهد فيه كاملاً .
مشاهد الذروة في الفيلم تبدو مهمةً جداً على صعيد العمق رغم الفجوة الواضحة التي يصنعها غياب شخصيات كازاريسو كارمنو كونشيتافي هذه المرحلة , الأولاد الذين سجنوا و جندوا لإيجاد مخبأ السبائك الذهبية يتخلصون ضمن هذه الظروف من خوفهم , يطردون مخاوفهم الداخلية و يسمحون لشجاعتهم بالظهور , تبدو شجاعتهم هنا هي النقيض البصري للشر , الشر الذي إنبثق و ترسخ بوجود الجبناء , كارلوسيقرر مواجهة خاسينتو , طرَد مخاوفه و بدى لأول مرة غير خائفٍ حتى من شبح سانتيالذي يعقد معه إتفاقاً لجلب خاسينتوإلى القبو حيث قتله و أغرقه في يومٍ ما , كارلوسو خايمييستفزان خاسينتولمطاردتهم إلى القبو , حيث يقتل الأولاد خاسينتوبشدة و يربطوه بسبائكه الذهبية التي تثقله و تجره نحوه القاع حيث ينتظره سانتيفي خاتمة اغريقية الملامح تطغى على فجوات الفيلم الصغيرة في مرحلة الذروة .
شبحٌ آخر يولد في الفيلم , شبح الطبيب كازاريس , الشبح الذي يساند الأولاد ثم يودعهم بعدما حققوا إنتصارهم , و ظهوره رغم كونه يبدو خاتمةً تلخيصية لرسالة الفيلم , إلا أنه يصنع فجوةً أخرى فيه , منبعها نقص الإرتباط بين شخصيتي الشبحين في الفيلم و الذي يحاول ديل تورومن خلال خاتمته - التي يقدمها صوت الراوي - إيجاده , و هي علاقةٌ كانت لتمنح الفيلم غنىً لا يمكن تصوره لو كثفت كما يجب , لأن عملية ترسيخ مأساة تتكرر (وهي جزئية لم نشاهدها رغم حديث ديل توروالختامي عنها) تبدو غذاءً حقيقياً و محبباً لسبر العلاقة التي ينشدها ديلتورودوماً في أفلامه السابقة و اللاحقة بين الموت و الحياة , بين الخلود و الفناء , (ماهو الشبح ؟ إنه مأساة محكوم عليها أن تعاد مراراً و تكراراً .. لحظة ألم ربما .. شيءٌ ميت لا تزال أوجه الحياة باديةً عليه .. إنه عاطفةٌ تطفو في الزمان .. كصورةٍ مشوشة .. كحشرةٍ عالقةٍ في مادة الكهرمان الدبقة .. الشبح هو ما أنا عليه) , نظرة رثائية لرجل كان يحاول طوال حياته تحقيق كينونته , إنشاء الميتم , معالجة البشر , الوقوع في الحب , تذوق الشعر و كتابته , الإستماع للموسيقى , لكنه يعتبر نفسه ميتاً منذ زمن بسبب عجزه و قرفه من عيشته , محورٌ غنيٌ نعم , لكنه لا يبدو معمولاً بعناية , لا يرتبط الشبحان بفعالية لدعم ما يرمي اليه العمل , الفيلم يبدو و كأنما يصور الشبح الحقيقي على أنه رجل عجز عن تحقيق ما أراده , يرى ديل توروبأن سانتيو رغم كونه في الواقع شبحاً حقق إنتقامه و وصل إلى ما كان يريد , بينما الطبيب رغم كونه حياً يرزق عجز عن فعل ذلك , لكن الصورة لا تقدم الشخصية بهذه الطريقة , فالمشاهد يشعر بأن الطبيب هو شخصية محترمة , ذات روح مليئة و ليست خاوية , و هي جزئية تتجلى بوضوح في سائر مفاصل الفيلم , الأمر الذي ولد الفجوةً الحقيقيةً الأهم بين النص و الصورة .
في العمل الذي أهداه إلى والده , يؤكد غاييرمو ديل توروالآمال التي علقت عليه منذ فيلميه الأوليين , و يمنح للمشاهد ترسيخاً حقيقياً لطبيعة و نوعية الأعمال التي يمكنه أن ينتظرها منه , و رغم بعض الفراغات التي خلفها هنا يبدو الرجل ذكياً كفاية و جريئاً كفاية ليعيد سرد ذات المفاتيح عن الخوفو المصيرو الموتو الخلودبثقلٍ أكبر عندما صفق له الجميع بعد خمسة أعوام في Pan's Labyrinth.