كتب :عماد العذري
التقييم :5/5
بطولة :كريستوفر غيست ، مايكل ماكين ، هاري شيرر
إخراج :روب راينر (1984)
هذا هو الفيلم الوحيد على موقع imdbالشهير الذي يحصل على تقييم من 11بدلاً من 10تكريماً لعبارته الشهيرة These go to elevenالتي تحوّلت إلى مثلٍ أمريكي و اختزلت بالرغم من بساطتها الكثير مما يمكن قوله عن هذه الفرقة : بساطتها و حماقتها و جهلها و زيفها و احساس السيطرة على الأمور الذي تحاول أن تكسو به تصرفاتها .
و بالرغم من أن هذا التقييم الممنوح تكريميٌ و ليس حقيقي ، إلا أنه يليق في سياقه بواحدٍ من أفضل الكوميديات التي صنعت عن العمل الفني (أو الشوبيز كوميدي) و من أفضل الكوميديات عموماً ، و هي كوميديا لا تستمد قيمتها من جودة ما تقدمه فحسب ، بل من أهمية الأثر الذي خلفته وراءها في تشكيل الملامح المكتملة للموكومنتري، قبل هذا الفيلم كان الموكومنتريمجرد تجارب فرديةٍ حققها مخرجون أرادوا توظيف لغة الفيلم الوثائقي في تقديم أعمالٍ روائيةٍ كوميدية ، أبرز هذه التجارب كان عمل ريتشارد ليستر A Hard Day's Nightو فيلم وودي آلن Zelig، لكن تحوّل هذا الفيلم الى ما يشبه الظاهرة المصغرة حال اطلاقه ساهم في تقديمه كقالبٍ – نصيٍ و إخراجي – للعديد من الأعمال التي نهجت التوثيق لتقديم الكوميديا ، حتى أن كلمة موكومنتريذاتها ظهرت في أدبيات السينما لأول مرة على يد روب راينرفي معرض حديثه عن هذا الفيلم بعدما بقيت لسنوات حبيسة القواميس .
في الفيلم الذي كتب نصه و موسيقاه روب راينرو ممثلوه الثلاثة يتابع مخرجٌ يدعى مارتي دي بيرغي (تكريماً لمارتيو دي بالماو سبيلبيرغ) فرقة روك بريطانية تدعى SpinalTapتعود إلى الولايات المتحدة بعد 15عاماً على نجاحاتها ، يلاحق دي بيرغي (الذي يقوم بدوره راينرنفسه) أعضائها الثلاثة الرئيسيين ديفيد سانت هوبنزو نايغلتيفنلو ديريك سمولزعلى مشارف اطلاق البومهم الجديد (شمّ القفاز) ، يسبر ماضيهم و نشأتهم ، يتأمل في تطلعاتهم الإنبعاثية ، و يراقب فيهم عن كثب أسوأ ما يمكن أن يحصل لفرقة روك تحاول استعادة مجدٍ غابر : الغاء العروض ، و الخلافات ، و سوء التقدير ، و المشاكل التقنية على المسرح ، و فقدان الدعم من الجميع .
من خلال تلك المراقبة يتقدم الحدث بشكلٍ مؤلم بقدر ما هو مضحك ، نتأمل في تمسكهم بالأمل ، و في انقسامهم التدريجي على أنفسهم ، نلمح جهلهم النابع في جزءٍ منه من ثقتهم المتبقية بشعبيتهم ، و نشعر بالأسى و السخرية في الوقت ذاته و نحن نشاهد سيلاً لا يتوقف على مدار ساعةٍ و نصف من العبث و العشوائية التي سيطرت على حياتهم ، في تلاحق هذه الأحداث جميعها تكمن جودة النص الذي كتبه الأربعة لهذا الفيلم ، يستثمر ممثلوه الثلاثة عملهم مطلع حياتهم الفنية في فرق روك مختلفة و قربهم الشديد من المهنة ليسخروا من تفاصيلها الصغيرة دون أن يحرروا تلك السخرية من مذاق الأسى الذي يلتصق بها ، هذا جميلٌ جداً وفعالٌ في جعل الفيلم قابلاً للمشاهدة و الضحك مرةً تلو أخرى .
ذكاء هذا العمل برأيي يكمن في أنه يأخذ حيزه الزمني في مرحلة ما بعد الذروة الفنية ، على تخوم التلاشي ، هذه المرحلة تكون أقسى عملياً من مرحلة الأفول لأنها تلتقط فيهم شعور الخيبة و الإنكار و مسحة الأمل المتبقية ، تستخلص من مطاردتهم أكثر اللحظات الإنسانية بعيداً عن ماكياج الشهرة (الذي يطغى في الذروة الفنية) و رضااستذكار الماضي (الذي يستولي على مرحلة الأفول) ، نتأمل عالمهم - الصغير أصلاً - ينهار تدريجياً من حولهم فتتعاطف معهم حتى و أنت تضحك على آلامهم ، كوميديا الفيلم حقيقية ، ليست مدعية أو متسولة ، هو واحدٌ من أكثر الأفلام التي جعلتني أضحك عندما شاهدته أول مرة قبل سنوات ثم أعدته قبل أسبوع ، الكوميديا فيه – مثل تطورات أي نصٍ ذكي – تأتي من مفصل الحدث ذاته و لا يضعها الكاتب فيه ، تبحث عنها و تلتقطها و تضحك سعيداً بها ثم تتأمل في سياقها العام شعور الأسى الذي تولده ليس فقط تجاه هذه الفرقة ، بل تجاه كل صورةٍ جميلةٍ و براقةٍ ينخرها الزيف و الخواء و الإدعاء و الحماقة فيجعلها شيئاً مختلفاً تماماً .
و في نفس الوقت الذي تبدو فيه تفاصيل حياتهم مثاراً للسخرية لا يخفي العمل كم العاطفة الذي يؤطر علاقتهم بالموسيقى ، هم قبل كل شيء يقومون بما يحبون القيام به ، هذه العاطفة هي منبع الحاجز الذي يبقيهم بعيداً عن الإحترافية و النضج الفني ، لذلك لا يتيح النص لتلك العاطفة بالإستيلاء على الحكاية كي يحافظ على التناقض الذي يستكشفه ، يلامس حس التفلسف و البحث عن عمقٍ إفتراضيٍ لحياتهم ، الشعور الذي يدّعونه على الدوام و الذي لا يتيح لنا الفيلم الفرصة لإختبار تشكيكهم فيه أو حتى مراجعته ، هذا عظيم ، دائماً ما يكون الخواء و العبث كامناً في التفاصيل و ليس في الصورة الكبيرة ، عندما يكون في الصورة الكبيرة لا يستطيع أن يهجو أو يسخر لأنه يخسر توقع الجمهور الذي تفقده الصورة (الأحادية / الكبيرة /الساخرة) حماسه للإستكشاف و التأمل ، لذلك لا يقترب النص من الصورة الكبيرة ، يتركهم كما يروق لهم أن يبدوا للآخرين ، فرقة ناجحةً ذات ماضي تزور الولايات المتحدة ، يكثف جهوده فقط على سبر التفاصيل و جعلنا نسخر منها ، و هو توصيفٌ دقيقٌ لـ (الصورة الكبيرة) القائمة دائماً على الكثير من التفاصيل المناقضة لها ، لا وجود هنا للشرير و الخيّر ، لكن هناك الحقيقي و الزائف و المدّعي و الهش و المتلوّن و الضعيف ، سردٌ لا يقوم على حبكة أو حدث بل يقوم على تفاصيل ، لا يقوم على لوحة بل على القماش الذي صنعت منه اللوحة .
لا أقل من قيمة النص تأتي قيمة أبطال الفيلم الثلاثة الذين يحملون على عاتقهم – اكثر من التفاصيل التقنية للفيلم الوثائقي – مسؤولية جعل هذه الفرقة تبدو حقيقية ، هذا يتحقق بالفعل ، يذوبون تماماً في الأدوار لدرجةٍ تجعل من الصعب على المشاهد العادي فصلهم عن شخصياتهم ، هذا إذا سلّم اساساً بفكرة أنهم يؤدون أدواراً ، وجودهم و حضورهم و عفويتهم تصنع علاقةً وديةً جداً بين المشاهد و الشخصية و هذا يضرب في عمق التفسير المنطقي لشعبية هذه الفرقة و حضورها و قربها من القلب ، هم يجذبونك كأنك جزءٌ من جمهورهم ، ساهم في ذلك عملهم في الأساس على خطوطٍ عريضةٍ للسيناريو و ارتجالهم معظم حوارات الفيلم و بلهجةٍ بريطانيةٍ مميزة (هي ليست لهجتهم في الواقع) ، الأمر الذي زاد من حميمية الشخصيات و حقيقيتها وكوميديتها ، و جعل رد الفعل يبدو من صميم الشخصية التي لا يقدمها النص أساساً كشخصيةٍ مكتوبة و إنما كشيءٍ حقيقيٍ موضوعٍ تحت المجهر .
هذا الإرتجال – الذي أصبح بفضل الفيلم جزءاً لا يتجزأ من فن الموكومنتري– يدعمه روب راينربعملٍ إيقاعيٍ ممتاز على الكاميرا المحمولة و المونتاج أصبح هو الآخر قالباً جاهزاً للموكومنتري، صوّر روب راينرعشرات الساعات قبل أن يدخل غرفة المونتاج و هذا ما جعل تكثيف العمق المطلوب للعمل صعباً للغاية ، حتى اليوم ما زال هناك نسخٌ شعبيةٌ يتداولها محبو الفيلم تفوق مدتها الساعات الأربع ، روبرت لايتنفي غرفة المونتاج يزيل فائض التصوير – القائم في الأساس على الإرتجال – ليجعل من هذه الساعة و النصف شيئاً ذو قيمة ، طريقته في القطع من مشهدٍ لآخر تجسّد النكتة حرفياً و أصبحت اليوم اشبه بطقسٍ من طقوس الموكومنتري، القطع الفوري بمجرد إنتهاء الكلام و بالتالي إعطاء شعور الصدى في عقل المشاهد الذي يبتسم مع بدء المشهد التالي على الطرفة التي سمعها في نهاية المشهد السابق ، تجسيدٌ بصري للحظة الصمت الفاصلة بين سماع النكتة – إرسالها إلى الدماغ – ثم إعطاء الأمر بالضحك !
من المنطقي تفهم الحديث المطول الذي رافق اطلاق هذا الفيلم عن الإسقاطات التي قدمها لحياة عددٍ من نجوم الروك و النابع من استلهامه في سخريته لبعض المفارقات الغريبة في مسيرتهم ، هذا اثباتٌ برأيي على براعته ، الخطوط التي يمسك بها في توثيقه و تلك التي يرسلها تعمل على إشراكنا في ماضيهم بالمقدار الذي يحب ، و هذا ربما نقدٌ ذاتيٌ للأفلام الوثائقية عموماً و قدرتها على توجيه المشاهد كما تحب ، ماضيهم يوجّه درامياً و نعرف عنه ما يغني تقدم الحدث و يجعلنا نهتم به فقط ، كل هذا يتم في المساحة المشتركة بينهم و بين أي فرق روك اخرى : الحياة الصاخبة ، و ولع الوقوف على المسرح ، و نسبية النجاح ، و نقاط القيمة السوقية التي تزيد و تنخفض بسبب غلاف ألبوم أو مجسّم غريب يوضع على مسرح .