كتب :أحمد أبو السعود
التقييم : 5/5
بطولة :همايون آرشادي ، عبدالرحمن باقري
إخراج :عباس كيارستمي (1997)
أعلم أن الانتحار واحد من الخطايا الكبرى ، لكن .. كوني تعيساً هو خطيئة كبرى أيضاً !
لم يستطع السيد (بادى) أن يجعل لحياته معنى فيحاول جاهداً أن يجعل من موته خلاصاً و معنى ، فينطلق بسيارته فى أنحاء المدينة باحثاً عمن سيساعده .
لم تتوقف السينما أبداً عن التأثير و إحداث انفعالات نفسية متغيرة ، يجلس المتلقي أمام الشاشة ليحس و يستجيب لذلك المؤثر العظيم ، يفرح أو يحزن و قد يشمئز ، لكن ماذا عن الموت ؟ ، و كآبة تأثيره و ثقله المُقبض الجاثم على النفس ؟ ، فى المحاولة الأولى لمشاهدة هذا العمل لم أستطع أن أُكمل العشر دقائق الأولى منه ، الفيلم بحاجة إلى تهيئة نفسية و حالة مزاجية معينة ، يتطلب قدر كافي من التجربة الحياتية كي تتابعه بدون أن تسأل لماذا قرر السيد بادى أن ينتحر ؟ ، و لماذا يبحث عن شخص ما كي يجعل لتلك الميتة طعماً افتقدته حياته ؟ ، التجربة مؤلمة و قاسية بالتأكيد ، و جزء من ألمها هو تفهمك للبطل و استيعابك الكامل لتلك الرغبة القابضة ، لكن أليست التعاسة خطيئة كبرى و مدمرة ؟!
الإيرانى العظيم عباس كيارستمييقدم مرثية عظيمة للحياة ؛ للأرواح و المدن التي تحتضر ، يستنطق من بين جنبات الموت صورة جمالية بليغة ، و يلتقط من بين تفاصيل الحياة البسيطة نبضاً صادقاً و موجعاً : أطفال يلعبون ، عمال يساعدون شخصاً بسيارته ، حارس يجلس وحيداً يؤدى وظيفته ، مراهق يقضى فترة تجنيده ، زوج و زوجة يستمتعون بالتقاط صور تذكارية ، يتحكم كيارستميفى شريطى الصوت و الصورة لا ليرسم تضاداً بين الحياة و الموت بل ليُكمّل أحدهما بالآخر ، فى الدقائق العشر الأولى من العمل حيث تجوال البطل فى سيارته و لا شيء آخر يحدث ، يكتفى كيارستميبالالتقاط ؛ التقاط نظرات شخص يبدو بائساً يائساً باحثاً بين وجوه و نظرات الناس عن شيء ما ، التقاط ملامح مدينة طالها التهميش و العزلة ، يسير الفيلم على نسق بصرى و سردي فى منتهى التميز و التفرد ، يمزج ببراعة بين الإحساس بوثائقية الأحداث و بين التوحد مع شاعرية الصورة و الذوبان في تفاصيلها البليغة ، يتحكم كيارستميتحكماً كاملاً بكل ما يحدث داخل و خارج الكادر ، يحكي بألوان الصورة و الأصوات في الخلفية ما تتلمسه الشخصية الرئيسية في واقع و ظروف أفقدها الجوهر الحقيقي لحياتها ، و يسير السرد الدرامي بإيقاع أفقي عظيم التأثير ، لا يسمح لانفعالاتك أن تحيد و لو قليلاً عما يريد البطل ، لا يسمح لخطبة جميلة عن الموت و الحياة الكامنة في طعم حبات توت صغيرة أن تنفصل عن البطل و تبدأ في التشكيك في نواياه أو التقليل من أهمية ما سيفعله ، ردود الأفعال هنا مقتضبة و قليلة جداً و كلها تدور داخل الإطار الرئيسي للفيلم ، مثل رد فعل البطل بعد سماعه تلك الخطبة الجميلة ، فلا يتعدى رد فعله غير العودة بعد ذلك إلى ذلك الرجل و يطلب منه أن يتأكد جيداً أنه حيٌ قبل دفنه بالتراب ، يجعل كيارستميمن الحدث نفسه بطلاً مهماً و فعالاً له القدرة على رسم إيقاعاً متهملاً و يفرض على المشهد طوله الزمنى حتى يتشبع بالرتوش و التفاصيل التى يرسمها.
يدين كيارستميللسينما بالكثير و يستمر في كل أفلامه في التأكيد على عظمة ذلك الوسيط و قدرته الصادقة على التقاط نبض البشر و حقيقة تجربتهم لذلك ينتهى الفيلم بلقطات أرشيفية لطاقم العمل أثناء تصويره للتأكيد على ذلك الفضل الذى ندين به جميعاً شئنا أم أبينا للسينما .
قال جودارأن السينما تبدأ عند جريفيثو تنتهى عند كيارستمي، و قال سكورسيزىأن كيارستمييمثل أعلى مراحل الفنية فى السينما ، (طعم الكرز) يمثل الخلاصة التي مزجت الحياة بالموت و التي لم تستطع السينما طوال تاريخها أن تقدمها أو تقترب منها .